بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[size=18]الفرزدق والذئب هو همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدرامي، اشتُهِرَ بالفرزدق لغلظِهِ وقصِره. روى صاحبُ الأغاني أن جد الفرزدق كان عظيمَ الشأن في الجاهلية، وقد أحيا أكثر من ثلاثمئة موءودة من مالِه، وأبوه غالب سيد بادية تميم وهو من الأجواد الأشراف، أما الفرزدق فقد نشأ في قومِهِ شريفاً كريماً كأبيهِ وجدّه.
أوتيَ الفرزدقُ "حساسيّةَ شاعرٍ يعيشُ في الشعرِ ولا ينظمُهُ فقط، ولذلك امتازت قصائِدُهُ بالصدقِ والحرارة مع مضامين اجتماعيّةٍ مرتبطة بشخصيّة شاعر من طرازه. وكان عظيم الشأن في اللغة فقيل: لولا شعر الفرزدق لذهبَ ثلث لغة العرب، ولولا شعره أيضاً لذهبَ نصف أخبار الناس.
توفي الفرزدقُ في بادية البصرة عام 110 للهجرة = 728 للميلاد عن مئة عام تقريباً([
ذكَرَ الفرزدق الذئبَ وصَوّرُهُ في مشهدين مختلفين، جاءً الأوّل في مقطوعة سينيّة مؤلفة من ستة أبيات، والثاني ضمن قصيدةٍ طويلة مؤلفة من سبعة وأربعين بيتاً، خَصَ الشاعر الذئبَ فيها بثمانية أبيات. وأعتقدُ أن الشاعِرَ في القصيدتين قَدّمَ مشهداً واقعياً واحداً، أو بتعبيرٍ آخر نستطيع أن نكتشف أن خلفَ المشهدين الشعريين حادثة واحدة قُدّمتْ مرتين وبطريقتين مختلفتين نسبيّاً، لنقرأ القصيدة الأولى(وليلةَ بتنا بالغريينِ ضافنا على الزادِ ممشوقُ الذراعينِ أطلسُ([5])
doPoem(0)
تلمّسنا حتـى أتانـا، ولـم يـزلْلـدُنْ فَطَمَـتْـهُ أُمّــهُ يتلـمّـسُ |
ولو أنّـه إذ جاءنـا كـانَ دانيـاًلألبستُهُ لو أنَّهُ كـان يلبِـسُ([6]) |
ولكن تنحّـى جنبَـةً، بعدمـا دنـافكانَ كقيد الرُمح بَلْ هو أنفسُ([7]) |
فقاسمتُـهُ نصفيـن بينـي وبينَـهُبقيّة زادي والركايـبُ نُعَّـسُ([8]) |
وكان ابنُ لليلى إذ قرى الذئبَ زادَهُعلى طارق الظلماء لا يتعبّسُ |
تقولُ الأبياتُ إن الشاعِرَ باتَ بالغريينِ ليلةً، فضافَهُ ذئبٌ ممشوقُ الذراعين أغبر اللون إلى سواد، ذئبُ فتيٌ تلمّسَ طعاماً، فقادته حاسة الشمِ إلى الفرزدق، وقد شرعَ بتناولُ طعامَه، وحين نظرَ الشاعِرُ مليّاٍ إلى ضيفِهِ ـ وربّما كان الفصلُ شتاء؛ أو هي ليلةٌ باردة ـ تمنّى لو يقتربُ الذئب قليلاً فيلبسهُ رداء ما يقيه البردَ والقر، إن كان يقبَلُ بذلك، لكنّه بقي بعيداً مسافةَ رُمحٍ عن الشاعر بعد أن دنى منه قبل ذلك قليلاً وابتعَدَ.
إذن الذئب جائع ولا غَرَضَ لهُ عند الفرزدق إلا الطعام، فهل يزجرُ الرجل "طارقَ الظلماء" هل يعبسُ في وجههِ ويطرده؛ لا ها هو ذا يقاسِمُهُ ما تبقّى من زاده بالعدل: أليسَ الفرزدَقُ ابن الكرامِ الذين اعتادوا أن يشتروا حياةَ الموءوداتِ([10]) في الجاهلية، واعتادوا على العطاءِ حتى قبلَ أن يَسألوا عن شخصِ صاحب الحاجة([11])؟ ألم تكن كل هذهِ المكرُمات وسواها في ذهنِ الشاعر حين قَدّم لضيفِهِ نصفَ زاده؟ وسيستثمر الشاعِرُ هذه الحادثة في الفخر، فيرويها شعراً ويختمها ببيتين يبيّنان كرمَهُ الأصيل، وتعاطفه مع هذا الذئب الفتي الجائع المقرور، وقد سَبَقَ وأشار الناقدُ العراقي د. عناد غزوان إسماعيل إلى حِسّ الشاعِر الإنساني وحبّه لهذا الحيوان حين تمّنى في عجز البيت الثالث أن يلبسه شيئاً يقيهِ "بَرَدَ الشتاء وحَرّ الصيف" ورأى أن هذهِ الصورة "فريدة من نوعها في أدب الذئب عند العرب"([12])؛ ونبّه إلى أننا أمامَ "خاطرة قصصّية، فيها وحدة زمانيّة ومكانيّة وشخوص وملامح، بيد أنها تفتقر إلى عنصري الصراع والحوار"، والناقد محق في ذلك، ولقد لاحظنا أن اعتمادَ الشاعر أسلوبَ السردِ والحكاية جعَلَ لغته على غير عادتِهِ ـ بسيطة واضحة لا صعوبة فيها، وهو المعروف بخشونة لغتِهِ ووعورتها في معظم شعِرِه.
في قصيدةٍ أخرى يعودُ الفرزدقُ ليقدّم لنا مشهداً آخر لذئبٍ أطلس يستضيفُهُ منتصفَ إحدى الليالي، ولا نعلم هنا أي القصيدتين سبقت الأخرى، في الظهور وهل كانت الأولى تدريباً ناجحاً على الثانية التي سنتناولها بعد قليل، أم أنها جاءت بعدها؛ وقد تذكّر الفرزدقُ الحادثة فنظمَ سينيّته تلك استدراكاً لشيء فاته؟ هي مجرّد أسئلة لا أمتلكُ جواباً لها، ولننتقل الآن إلى النص الثاني([13]):
وأطلسَ عسّالٍ، وما كانَ صَاحبـاًدعوتُ بناري موهناً فأتاني |
فلّما دنا، قلتُ: ادنُ دونَـكَ، إننـيوإيّـاكَ فـي زادي لمشتـركـانِ |
فبتُّ أسوي الزاد بينـي وبينَـهُ،على ضوءِ نـارٍ، مَـرّةٍ، ودُخـانِ |
فقلتُ لَهُ لمّـا تكشّـرَ ضاحكـاً...وقائِمُ سيفي مـن يـدي بمكـانِ |
تعشَّ فـإنْ واثقتنـي لا تخونُنـينكنْ مثلَ من يا ذئـبُ يصطحبـانِ |
وأنتَ امرُؤٌ، يا ذئبُ، والغدرُ، كنتُماأُخييـنِ، كانـا أُرْضِعـا بلـبـان |
ولو غيرَنا نبّهتَ تلتمـس القِـرىأتـاكَ بسهـمٍ أو شبـاةِ سنـانِ |
وكلُّ رفيقي كُـلِّ رحـلٍ وإن هُمـاتعاطى القنـا قوْماهُمـا، أخـوانِ |
علينا قبل أن نتحدّث عن المشهد الذي رسمته الأبيات السابقة أن نشير إلى أن الشاعرَ جعلها فاتحةَ قصيدةٍ طويلة متعددة الموضوعات، وإن كان بالإمكانِ أن أردّها جميعاً إلى مقولةٍ واحدة، أو فكرةٍ رئيسةٍ مسيطرةٍ على الشاعر، يمكن أن أوجزها على لسان الفرزدق نفسه كما يلي: "ها أنذا بكل مجدي الطارفِ والتليد، بكل شرفي وكرم محتدي ودور قبيلتي تميم في الجاهلية والإسلام، بكل كرمي الذي نالت الوحش شطراً منه أُخْفِقُ في الحُبّ، وتخذلني النوّار وتذلك كبريائي، وتشين عرضي، فتملأُ قلبي ألماً وهَمّاً، وتعجّلُ شيخوختي، فيبيَضُّ رأسي ويخُور عَزمي، ويقربُ أجلي، وبالرغم من كل ذلك لا أستطيعُ أن أهجوها، وأقسو عليها وأقطع كل ما كان بيننا" والذي يؤكد وجهة نظري هذهِ الأبياتُ التاليةُ لمشهدِ الذئب مُباشرةً، وهي برأيي بؤرة القصيدة؛ لنقرأ:
doPoem(0)
فهـلْ يَرْجِعـنّ اللهُ نفسـاً تشعـبّـتْعلـى أثَـرِ الفاديـنَ كُــلَّ مـكـانِ |
فأصبحـتُ لا أدري أ أتبـعُ ظاعِـنـاًأم الشـوقُ منّـي للمقيـمِ دَعَـانـي |
ومـا منهُـمـا إلاَّ تـولّـي بشـقـةٍمـن القلـبِ، فالعينـانِ تبـتـدرانِ |
ولو سُئلتْ عنـي النَّـوَارُ وقومُهـا،إذاً لـم تُـوارِ النـاجـذَ الشفـتـانِ |
لِعمري لَقَـدْ رقّقتِنـي قبـلَ رِقّتـي،وأشعلتِ فـيّ الشيـب قبـلَ زَمَانـي |
وأَمْحَضِتِ عِرْضي في الحياة وشنتِـهِوأوقـدْتِ لـي نـاراً بكـلِّ مـكـانِ |
فلـولا عقابيـلُ الفـؤاد الـذي بـهِلقد خَرَجت ثنتـانِ تَزْدَحِمَـانِ([15]) |
ولكـن نسيبـاً لا يــزالُ يَشلُّـنـيإليـكِ، كأنـي مغلـقٌ بِرِهـانِ([16]) |
سواءٌ قرينُ السَّوْءِ في سَـرِعِ البِلـىعلى المرءِ، والعَصْرانِ يختلفان([17]) |
ولهذا ـ على الأغلب ـ رأينا مشهد الذئب يفتتحُ القصيدةَ، وكانت نوّارُ من قبل قد ملكت عليه الكثيرَ من مطالِعِ قصائده حيث كانَ "يتغنّى بها ويحدو باسمِها الركب ليدفَعَ عنهم النُعاس، ويذهب بذكرها خدرَ أعضائِه، فعلَ العشّاق المتيمّين، ويحنّ إليها إذا نأى، ويطرقُهُ خيالُها في الصحراء البعيدة، الموغلة في البعد، فيشمُّ نفحات شذاها العطر، وتتبدّل صحراؤهُ إلى جنّة"([18])
فلماذا ابتدأ الشاعرُ القصيدةَ بالذئبِ هذه المرّة؛ أما كان باستطاعتهِ أن يؤجّل هذا المشهد قليلاً؟ ويسيرَ في قصيدتِهِ على عادتِهِ وعادة الكثيرين، من شعراء عصره هل هي رغبة في التجديدِ؛ وكسر عمودِ الشعر؟ أم أنّ شيئاً ما في أعماقِ الفرزدق جعلَهُ يستبدلُ بالذئبِ المرأةَ ـ النّوار؟ هل أرادَ بذلك أن يشبهها بالذئبِ غدراً وخيانةًَ دون أن يصرّح، وقد اشتملت الأبيات على هاتين الصفتين/:
doPoem(0)
وأنتَ امرؤٌ، يا ذئبُ والغدر كنتُماأخييـنِ، كانـا أُرضعـا بلبـانِ |
أم أن الشاعر لم يفعل ذلك عن وعيٍ وقصد، والمسألة تتعلقُ بلا وعيه الذي استنبطَ هذهِ الوسيلة، بعد أن منعه إحساسه بالحبِ نحوها و"عقابيل الفؤاد" من هجائها بشكلٍ مباشر.. فجاءت القصيدة بالصورة التي نعرفَها: مشهدُ يصور ذئباً أغبر اللون، لم يكن من قبلُ صاحباً، يدعوه الفرزدقُ بناره ورائحة طعامه، فيقبلُ جائعاً يعسِلُ، ويقتربُ من الشاعِرِ، الذي يبادِرهُ قائلً: "تعالِ وشاركني الطعام"، ويبدأ يقدّ الزادَ بينَهما؛ تارةً على ضوء النار، وأخرى على دخانها، دون أن ينسى أن ضيفَهُ غَدّارُ شرس، قد يفتك بهِ إن غفلَ عنه، ولهذا فهو يرمي لَهُ الطعام بيد، ويده الأخرى على مقبض سيفه ولاسيّما حين تغلبُهُ طبيعتُهُ الوحشيّة، فيتكشّر وتظهر أنيابه.
وهنا يعود الشاعِرُ ليحاور ضيفه حاثاً إياه على تناولِ الطعام دون الغدر؟ فلو كانَ التمسَ طعاماً من حيٍ آخر، لما أصابَ إلا سهماً أو سنان رمح. يتلو ذلك مشهدٌ آخر يُقدّمُ فيه الفرزدق زوجته النّوار وصنيعَها به، بعد حُبّه إيّاها، وصراعِه من أجلها ـ من وجهة نظره طبعاً([19])ـ ويستغرق ذلك ستة أبيات، ويأتي بعدها مقطعٌ يمتدّ ثلاثينَ بيتاً، يفخرُ الشاعرُ فيه بنفسه وقبيلته، وهو الغرضَ الذي استهوى الفرزدق واستأثرَ بنفسه، فيجدُ في مساعي قومِهِ ومآثرهم ما يساعده على ذلك، لكنّه يبالِغُ في ذلك ويبجَج.
وكان الفرزدقُ قَدْ وظّفَ حكايته مع الذئب بشكلٍ رائع في بداية شطر القصيدة المخصصِ للفخر فقالَ ممهّداً لغايتهِ بنجاح:
doPoem(0)
وإنّا لترعى الوحشُ آمنةً بنا،ويرهَبُنا، أنْ نغضبَ، الثّقلانِ |
فَضَلنا بثنتين المعاشرَ كّلهـم بأعظمِ أحـلامٍ لنـا وجفـانِ |
فتصّوروا لو أن الشاعرَ في مشهد الذئبِ تصرّفَ على غير ما رأينا؛ لو أنه نهرَ الذئبَ، أو طردهُ، أو رماه بسهمٍ؛ هل كان يستطيع أن يقول ما قالَهُ في البيتين السابقين؟، هل يستطيع أن يبني تلك المفارقة المذهلة بين إجارةِ قبيلته للوحشَ وحمايتها والدفع عنها؛ حتى ترعى آمنةً بها، وبين خوف الإنس والجن ورهبتهم من أهله حين يغضبون؟ وهاهم يَفْضِلونَ بني جنسهم بشيمتين: غاياتهم ومآربهم السامية الجليلة، وكرمهم النادر، ومن جهةٍ أخرى هل كنا كقراء سنقبل منه ذلك ساعتئذٍ؟! وأخيراً لابُدّ من الإشارة إلى أن مشهد الذئب في قصيدة الفرزدق مشهدٌ عضوي داخل جسد القصيدة، ولا يمكن النظر إليه أو دراسته بشكلٍ منفصل وكنا قد رأينا الأمر نفسه في معظم القصائد السابقة ولاسيّما قصيدة الشنفرى وقد قام المشهدُ على حبكة قصصيّة بسيطة جداً ولكنها شائقة، نفذّتها شخصيتان هما الشاعر والذئب، وقد حاول الشاعِرُ أن يقدّم الذئب وكأنه كائن عاقل حين خاطبه قائلاً: "وأنتَ امرؤٌ، يا ذئبُ والغَدْر كنتُما/أُخيين كان أُرضعا بلبانِ"، واستخدمَ بالإضافةِ للسردِ المجبول بالوصف حواراً بسيطاً، قَدّم من خلالِهِ طبائِعَ الذئب ونوازِعهَ، كما أضاءَ في الآن نفسه خصالَهُ هو وأراءه بشكلٍ غير مُباشر، فإلى جوارِ قيم الكرمِ والشجاعة والعطف على الوحش الشرس؛ رصَدَ الشاعِرُ قيمةً مهمّة ونبيلة قد لا يفطن لها كثير ممن يمرّون بالقصيدة، مفادها أن الرحيل في الصحراء ـ وهي ما هي من قسوةٍ وعطشٍ وجوع وحَرّ ـ يجعَلُ رفيقي الدربِ صديقين حتى ولو كان قوماهما على حربٍ فيما بينهما، فللحربِ والاختصام بين البشر شأن، ولكائنين حيّين يعبران الصحراءَ مسافِرَين إلى مكان ما شأن آخر، عليهما أولاً أن ينتصرا على هذهِ الغول العطشى إلى دمائِهما قبل أن يفكرا بغير ذلك:
doPoem(0)
وكلُّ رفيقي كُلِّ رَحْلٍ وإن هُماتعاطى القنا قوماهُما، أخوانِ |
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:24 pm من طرف نجمة السماء
» اظل للموت احبك وابقى اسولف فيك..
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:17 pm من طرف نجمة السماء
» أختبار في المشاعر أي نوع من الاشخاص أنت
الجمعة سبتمبر 20, 2013 7:05 am من طرف علي العبيدي
» تفسير رؤيا الصحابه رضي الله عنهم في المنام
الأربعاء أكتوبر 20, 2010 1:00 am من طرف علي العبيدي
» إياك ان تفعلها فتذهب رجولتك
الخميس أكتوبر 14, 2010 1:15 pm من طرف نجمة السماء
» آدآب دخول المنتدى ♥ من الألف إلى اليآء ♥أرجو التثبيت
الأحد أغسطس 15, 2010 12:07 pm من طرف ابن دجلة الخير
» قصة سيدنا أيوب عليه السلام
السبت أغسطس 14, 2010 11:56 am من طرف ندى الريحان
» جاوب الي بعدك..وضع سؤالا
السبت أغسطس 14, 2010 11:52 am من طرف ندى الريحان
» بعض ما قيل في رجال العراق
الإثنين أغسطس 02, 2010 11:29 am من طرف نجمة السماء